السبت، 9 فبراير 2019

[ترجمة] ذكريات برائحة الجازولين - ديفيد فيوناروفيتش




ذلك الوجه، أعلم أنني رأيته من قبل. كنت في اللوبي الخاص لدار السينما، أقف بين جموع الناس التي انتظرت الدخول إلى صالة العرض لمشاهدة فلم تدور قصته حول مجموعة مراهقين يخفون سر جثة شخص ميت. شُرعت الأبواب وتدفق مئات الناس مثل السيول الجارفة إلى الخارج. الفلم الذي كان يعرض مسبقاً قد انتهى للتو. في تلك اللحظة وقعت عيناي على ذلك الوجه. بين الزحام، وجه بلا هوية يضغط زر الذكريات في رأسي. تجمدتُ عندما بدأ حجم ذلك الوجه بالتضخم، تمدد طوله حتى وصل ارتفاعه إلى خمسة أقدام، ذلك قبل انفصاله عن الجسد والطفو في العتمة. أظنه قد تجمد هو الآخر. كانت بشرته رمادية باهتة، وشعره مُسرح بعناية حتى التصق حول جمجمته. شفتاه متراصتان، دقيقتان وصافيتان. توسعت عيناه التي لا لون لهما للحظة. وقفنا هناك، وحاول كل منا فك شفرة ماضي الآخر، والوصول إلى معرفة ذلك الوجه المألوف. سُحلت، وتم قذفي من نافذة لغرفة في الدور الثاني، خُنقت وضُرب رأسي بواسطة قطعة من الرخام. تلقيت أربع طعنات على الأرجح، لُكمت على وجهي لسبعة عشر مرة تقريباً، عانى جسدي من ضربات لا يمكن عدها. فقدت وبشكل كامل القدرة على التنفس، واستيقظت من النوم مرة، لأجد نفسي مقيداً في سرير غرفة فندقية، حيث تدفق كل الدم داخل رأسي المتدلي إلى الأسفل، حتى شعرت أنه على وشك الانفجار. حدث كل هذا قبل أن أبلغ الخامسة عشرة من عمري.



أفسر حدوث ذلك لإقبالي عن المغامرات، أو لأني كنت صبياً يقدم الجنس مقابل المال في مدينة نيويورك. لم يعني لي الموت أي شيء في تلك الفترة من حياتي، وتضاربت مشاعري تجاهه. في الوقت جاهدت فيه لكسب المال لأطعم نفسي، أو للحصول على مكان للنوم لليلة واحدة، بدت لي فكرة الموت جذابة، كان الموت هو الحل البديل. كنت أتسكع بملابس لم أغيرها أو أغسلها لشهور، لدرجة انه كان بمقدوري رؤية انعكاس وجهي من بنطالي إذا اقتربت كفاية منه. تعودت السير وبشكل دوري إلى محطة بورت اثوريتي كلما حصلت على مال إضافي مقابل الجنس في فندق رخيص في الجادة الثامنة. اذهب إلى هناك وابدأ النظر إلى أسماء القرى المكتوبة على زجاج شباك التذاكر، وغالباً ما وقع اختياري على وجهة تتميز بطبيعتها المائية. أشتري التذكرة وأركب الحافلة، ولا أطلب من السائق التوقف إلا عندما ألمح بحيرة أو بركة، وغالباً ما أجادله لأن تلك المناطق لم تكن مجدولة كمحطات للتوقف. بعد أن أنزل من الحافلة، أمشي في الحقول وأدخل في مياهها حتى تغطي رقبتي. لم أكلف نفسي عناء خلع حذائي أو ملابسي. كنت أطفو لساعات ومن ثم أعود إلى الطريق لأستوقف السيارات واطلب من سائقيها إيصالي إلى محطة وقوف الحافلة، أو حتى لأخذي إلى المدينة.

عندما أعدت النظر نحو ذلك الوجه، لاحظت بدلته ويديه، وظهر كفيه، وأظافره المشذبة، فتذكرته. ربما لاحظت كل ذلك بسبب قوة إضاءة اللوبي أو بسبب ضعفها عندما فتحت أبوابه وبدأ الناس بالخروج. ربما بسبب لون جسده، الذي ظهر وكأنه فاقد للأوكسجين، ربما بسبب نظرة الترقب أو الخوف. أتذكر تلك الليلة قبل خمسة عشر سنة، عندما كنت ألهو في تلك البركة، وأغوص في مياهها باحثاً عن شيء حي. كانت الشمس تسرع في غروبها، وكنت أشعر بالبرد. لم يساعدني حجم القرية الصغيرة على العثور على طريقة للعودة. لم أعرف حقاً أين كنت.

عيناه، وجهه الرمادي المنفصل عن جسده يطفو في حيز ظلام نافذته المفتوحة. شاحنته الحمراء الصغيرة والمهترئة وقفت على جانب الطريق، لوّح لي بالصعود. اعتقدت أن بشرته كانت مزيفة، شيء يشبه المطاط الشفاف. سألته إلى أين سيذهب، أوه، بعيداً. صوت رقيق مغلف بنبرة ودودة لا أميل لها. قاد مركبته وعم الصمت لفترة قصيرة، ونظرت خارج النافذة نحو المنازل المضاءة، ولمحت بشكل عابر تفاعل الناس مع بعضها البعض، وكلب يجري بذعر في الطريق السريع. قال لي أنه يعمل لصالح بنك في المدينة، ولسبب ما، أصابني ذلك بالكآبة، ربما لأن عقلي ترجم رسمية عمله إلى صور سنوات من الكتابة في دفتر السجلات وأكواب من القهوة الفاسدة والتعامل مع الناس المحتاجة. في لحظة ما، أخرج قضيبه وحدق باتجاه الزجاج الأمامي، ناحية الفنارات المضيئة للطريق. مسك المقود بيد وداعب قضيبه بالأخرى. كان جسدي يميل إلى الباب ولم أجب عندما همهم بشيء ما عن ذلك المكان الذي نستطيع الذهاب إليه. انعطف يساراً وسرنا فوق طريق ترابي يؤدي إلى أحراش تقع فوق التلال. أتذكر رؤيتي للعث والحشرات وهي تغوص في ضوء السيارة الأمامي، ولافتة خشبية صغيرة عليها شعار الكشافة، ومجموعة متفرقة من الأكواخ. كان خرير مياه البحيرة بالقرب منا.

خرج من السيارة وفتح باب الراكب الأمامي الذي جلست خلفه. لم أتحرك. كان قد أوقف محرك السيارة وأطفأ أنوارها الأمامية. أخرج. شعرت بتعب لا أذكر أنني مررت بمثله. مددت رجلي خارج المركبة ووقفت أمامه واضعاً يدي في فتحتي جيوبي. ازدادت سرعة الريح وجلبت معها مطراً خفيفاً. مسك بذراعي ورفع مزلاج باب الكوخ الخلفي. تسللت يده الأخرى إلى وجهي ومن ثم طوقت مؤخرة رقبتي، استوعبت أنني أقاد إلى المكان المظلم من الكوخ. زحفت بخضوع إلى الداخل، كان المكان مليئاً بالبطانيات وحقائب النوم وصناديق لأشياء أجهلها. كان المكان رطباً وتفوح منه رائحة التراب والزيت. دخل خلفي واغلق الباب. تقلص كل شيء، طغت الروائح وصوت الشجر وصرير خطوات حذائه على المكان. غطت صورته الظلية على ما تبقى من أضواء صغير قبل أن يستلقي إلى جانبي.


سمعت صوت سحاب بنطاله. تحركت يده على رقبتي، سحبني. قلت له أنني أود العودة إلى المنزل. ما الذي تتحدث عنه؟ لم أر أي شيء. تساقط المطر بغزارة، المياه تزيد الظلام عتمة. لا أعلم، أجبته. سألت نفسي إلى أين كنت سأذهب لو لم يوقف مركبته لي. أتفضل أن أدخله في مؤخرتك؟ لا. حسناً، قال ذلك ومن ثم ضربني، بقوة.

أفقد قدرتي على النظر بينما يقّلبني حول نفسي، مرة، بعد مرة، بعد مرة. أين أنا؟ في حقل موحل، في مؤخرة شاحنة تعود لرجل غريب، ومركونة أمام سياج، الرجل الغريب يضع كل ثقله على ظهري، وأشعر أنني أقذف من منطاب عملاق. حبل باهت يخرج من صندوق كرتوني ويلفُ يدي خلف ظهري. كنت منبطحاً على بطني، ولو صرخت طلباً للنجدة، فلن يصل صوتي سوى إلى المنازل المهجورة الواقعة على بعد أميال من الطريق المظلم والفارغ، أو إلى المصانع المغلقة في الطريق السريع. يشد شعري، يسحب رأسي إلى الخلف حتى يبان وجهه مقلوباً ومبتسماً. لكن ابتسامته كانت شبيهة بالعبوس، كانت مقلوبة، يميل نحوي ويقبل عيني. تغطت النوافذ بالضباب، ففتح واحدة. أستطيع أن أرى نور عابر لحشرة.

يصفع مؤخرتي العارية، يدخل لسانه في أذني، ويمرره نزولاً إلى رقبتي، يقلبني مرة بعد مرة. 
ارتبك من رائحة الحديد المبلل والأقمشة السميكة عندما يقع رأسي على البطانية أو حقيبة النوم.
لماذا يضع ركبته فوق رأسي، فأنا لست دمية بأعضاء قابلة للاستبدال. يضع بطانية ملفوفة تحت جسدي العاري ليجبر مؤخرتي على الارتفاع. لم يعد بإمكاني الإحساس بيدي، توقفت دورة الدم. يا للسخرية، كيف كانت حياتي تسير ببطء حتى أتت هذه اللحظة، الآن أنا أتوسل منها لكي تنتهي. قهقه واختفى من الشاحنة. أسمع صوت خطواته فوق الأرضية المبللة، قبل أن يدخل مجدداً. يستلقي فوقي. أشعر بالبرد، لكن جسده يزودني بحرارة حادة. تي شيرته مخلوع وبنطاله منزوع. بدأ بدفع جسده فوق جسدي بحركة ميكانيكية، ذراعه ملتوية حول وجهي. العق هذه. تدفع أصابع شيء ما في فمي: إنها حشوة من الطين والتراب.


أنه يعاملني وكأنني ملكه. أنا عالق، وضائع وبلا أمل، ولا شيء أألفه هنا. ربما الآن سأرتاح، ربما سيسحق جمجمتي أو يخنقني. الآن، أتذكر شيئاً حدث قبل ذلك، عندما فك حزامي وأسقط بنطالي إلى كاحلي وبدأ بجلدي بكل ما استطاع من قوة، آلمني ذلك كثيراً، وحاولت بكل قواي لكي أُثار جنسياً. حاولت أن أتخيل أنها كانت ضربات لطيفة، أو أن أتخيله أنه كان رجلاً وسيماً، حاولت تخيل أنني أسير على بعد ميل. هيا اضربني، قلت له، محاولاً الادعاء أنني أحب هذا، ربما سيشعره هذا بالملل ويتوقف. قلبني مرة بعد مرة، بحق الجحيم، لماذا يفعل هذا؟ مد يده نحوه الظلام البعيد، فسمعت صوت علبة لسائل، علبة لها صوت المعدن، وسائل يتحرك مثل غاز الولاعة، أو الغازولين، هذا ما تخيلته. أهذا ما يحدث؟ تخيلت اللهب، تخيلت جسدي مثل قطعة لحم تركت في النار أكثر من اللازم، متفحم ومحترق، وتخرج منه العظام. شعرت بسريان السائل فوق مؤخرتي، ذكريات طفولتي عن ذلك الزيت الذي يستخدم للأطفال تغرق المكان. 



أريد أن أموت، أريد أن أموت، أريد أن أموت. لو كررتها، هل سيتبدد خوفي من يده التي قبصت على عنقي؟ أغرق في هذا المكان المظلم، ويده تنزلق إلى فلح مؤخرتي. أوه، يا لها من هدية منك، قال. يجذب ذراعي المقيدتين ويدفع بثقله الكامل نحوهما، ويثبت مرفقي بطريقة مؤلمة على الأرضية المعدنية، ويدخل قضيبه داخلي. أنه يعض خدي، يصفعني، يصفعني، يدفن رأسه في رقبتي ويعضني مرة أخرى. ما زلت أغرق في المكان المظلم. أربعة أصابع في فمي، يقبل عيني، ويلهث بقوة في أذني، يتحرك كآلة أيعجبك هذا الإيقاع المنتظم؟ آه.   

الأرشيف الخامل في رأسي يحمل ذكريات قادرة على تغيير مسارها، أما أن تتلاشى أو تركض نحوي باحثة عن مأوى. في اللحظة الذي اخترق فيها جموع الناس قادماً ناحيتي، انكمشت ذهنياً وصرت طفلاً بلا قدرة على الدفاع أو حتى الوصول إلى السكين الصغيرة في جيبي. أردت أن تنبت الجدران من الأرض وتقف بيننا، أردت دزينة من جدران الإسمنت والفولاذ لتفصلنا، لتمنع يديه من لمسي. لكنني أعلم أنه قادر على المرور من خلالها مثل حلم مجنون. شعرت أنه يستنزف دمي هناك في المكان المزدحم. اختفت كل ذكرياتي وقدراتي على الحديث، علمت أنني قادر أخيراً على ابرحه ضرباً، لكنني علقت في رأس طفل يبلغ الخامسة عشر. ظللت أفكر، أردت أن أقتل نظرته. فقدنا أثر بعضنا البعض عندما انكمشت للحظة وأنا في طريقي إلى دورة المياه. دخلت وجلست فوق المرحاض المغلق لفترة طويلة مصغي السمع للناس الذي يدخلون للتبول. 



كان قد اختفى عندما صعدت أخيراً. لكنني ما زلت أشعر بنظرته تسيطر على المكان، ظلت هنا مثل رائحة حريق هائل.

هناك 3 تعليقات: